اليوم : الأربعاء 04 نوفمبر 2015

في الأساطير الآسيوية توجد أسطورة حب تدعي أن هناك خيطا أحمر خفيا يربط بين من قدر لهم أن يكونا في نهاية الأقدار الطويلة معا، وأنه مهما تشابك الخيط، فهو لا ينقطع أبدا، واعتدت أنا أن أفكر بطريقة بلهاء تناسب رومانسية مراهقة -مثل التي كنتها- أن بيني وبين الوطن خيطا أحمر سيصلني به في نهاية الأمر.

كنت أؤمن بتلك القوى الخفية التي ستحملني على نسيم فيروز إلى بلادي البعيدة القريبة.. لم اختر غربتي في بداية الأمر، كنت مجرد طفلة في عمر السنة، ساقت الأقدار والدها للغربة، وساقتني معه بالضرورة، فنبض قلبي لذلك الوطن الذي لا أعرفه.. سامحه الله نبيل فاروق، فصدقوا أو لا.. كنت اتمنى أن أكون إحدى ظباط المخابرات، ولم يمنعني عن حلم اليقظة ذاك إلا خوفي من التخلي عن حجابي الذي كنت أراه هويتي في ذلك السن- وهو السبب الذي كنت أصّرح به- وخوفي الكامن من أن تطفأ في جسدي السجائر وتنزع أظافري في سبيل معلومات بلادي العزيزة -وهو السبب الذي لم أصّرح به.

الخلطة الكاملة لمراهقة ساذجة تحب من طرفٍ واحد فتبكي على أغنية فيروز، وترتعب أن”لا تعرفها بلادها”، وتحتضن وسادتها بطريقة مراهقة ساذجة على أنغام “ماشربتش من نيلها”.

……….

 الأعوام ما بين 2008 – 2010

أمي تحب مطالعة برامج التوك شو، 90 دقيقة على وجه الدقة. ولسبب أجهله كانت تلك المشاكل تثير فيّ الغضب والغصة في الحلق. هناك شيء غير سوي يحدث.. أخبرت أمي ذات مرة بعد مشاهدة مسلسل يتحدث عن ثورة 52.

“ماما.. اعتقد أن الوضع الحالي يستحق ثورة”.. سخرت أمي مني واخبرتني أن هذه الأشياء تحدث مرة واحدة فقط. واخبرتني خالتي أنني أنتقد وطني بطريقة مبالغُ بها، وأن هذا خطر، ولم افهم كيف يكون انتقادي لفيلم سنيمائي انتقادا للوطن؟!”

……….

عام 2011

كنت امسك بأوراق مادة الأدب العربي، بينما يحترق المتحف على التلفاز، صرخت وأنا ارمي الأوراق في الهواء.. “ماذا افعل هنا، بينما يفترض أن أكون هناك”؟!

………

عام 2012

سؤال عشوائي متكرر: هل ستعاودين السفر بعد الدراسة؟

مستحيل، من أجبر على الغربة لا يختارها أبدًا.

أي أطفال في هذا العالم يستحقون وجودي بينهم غير أطفال الوطن؟!

……….

عام 2015 

الاعتقال، فقط للأبطال، “علاء عبد الفتاح” مثًلا، “ماهينور المصري”.. لا يمكن أن اصبح مثلهم .

* يزداد الأمر صعوبةً، لكن ما المانع من قليل من الصبر؟

* هل اسافر!

أبي، لا تعود .*

………

اختطاف إسراء الطويل

اختطفت إسراء من أمام مطعم بصحبة صديقيها، مر بخاطري عدة مطاعم احب أن أذهب إليها بصحبة أصدقائي.. اتفحص بطاقتي حين اخرج.. كنت مستعدة للاعتقال في أي لحظة، في أي دقيقة.

بماذا تختلف إسراء عني؟ لا شيء.

حين كنت اقرأ خطابات إسراء، كانت تشبه أختي في تذمرها من قذارة بعض الأماكن.. ماذا لو؟

ماذا قد يحدث لوالدي الذي يخاف حين اجرح أصبعي! والدي الذي يطلب مني أن امسح اعتراضاتي على صفحتي الشخصية على الفيسبوك، خوفًا من النظام؟!

سأسافر.. لن أعود .

لكن إسراء قوية، إنها تضحك!

هل حقًا كانت قوية؟ اعرف ضحكة إسراء جيدا.. لقد ابتسمتُ عدة ابتسامات تشبه تلك، وكنت اخبرهم أني بخير وبكل سعادة وراحة بال.. اعرف كم هي هشة من الداخل، تشبه هشاشتي.. هناك شيء ينهشني كلما اقتربت جلسة من جلساتها، الأمل يزداد. ثم يتكسر.. ولا تتوقف إسراء عن الابتسام.

دون أن أشعر اصبحت إسراء خيطي الأحمر بالوطن.. الخيط الذي تشابك لـ 21 عاما، حتى اهترأ.

إسراء تتألم، وأنا ازداد هشاشة.. قدمها تضمر، وقلبي يبدأ بالضمور.

……….

25 أكتوبر/ 2014  تاريخ مميز، كنت استعد للاحتفال به في 2015

غرقت الأسكندرية، الشوارع التي شهدت نبضات قلبي الدافئة. اصبحت تحت الماء.. اصبحت اتنفس بصعوبة.. اهترأ الخيط وبدأ في التفتت.

……….

2 نوفمبر/ 2014

تاريخ مميز آخر، كنت استعد للاحتفال به أيضا بالقليل من الأمل. والكثير من الضحك. بإيمان كاد أن يزول.

بكت إسراء.

حين بكت إسراء أمام هذا الجمع، فهذا يعني تحطم الدفاعات الأخيرة.. آن لهشاشتها أن تعلن عن نفسها.. ليست قديسة كماهينور. هي هشة مثلي.

بكت إسراء.. انقطع الخيط.

……….

ريهام سعيد تتجبر، تنهار.. كارت وانحرق

الرئيس يولول كمراهق.

يقولون إن إسراء ” كدرت” السلم العام للدولة.. أي دولة!

تبرع الشعب بإضافة تهمة جديدة لم تفلح جهود الداخلية في ابتكارها.

التعليم يأتي أخيرا.

الدّين يرتفع.

الدولار يرتفع.

الانتخابات صامتة.

ابن مرتضى منصور في الانتخابات.

قناة السويس لا تؤتي أكُلها.

………. 

صمت.

هدوء لا يشبه هذه البلد.. يشبه غربتي أكثر.

اغرق في مياه باردة، تحّول لونها للأحمر.. يذوب النسيج.

لا أسمع شيئًا.

بخفوت يتسرب صوت بكاء إسراء ولا شيء غيره.

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك