كثرة تنقلي ولدت لدي قدرة سحرية على التكيف مع الآخرين والتحدث والتصرف مثلهم، لذلك أجدني أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن أصاحب من يضعني على الطريق الذي أحب أن أراني فيه، أو سأجد نفسي أنجرف في طرق غريبة لا أحبها، ولأن حسابات الـ Facebook لها التأثير الأكبر في حياتي، فأنا أحب أن أكون في دائرة من الأفكار التي تشبهني وأحبها، هذه الدائرة التي اخترتها تمنحني رفاهية أن أكون بين أصدقاء يتحدثون عن الحب والجمال وأن أبدأ يومي بصور لأبوابٍ ملونة وصباحات مختلفة.
ثلاثة من أصدقائي قرروا يوما أن يصنعوا “سور الأزبكية” بنسخة إلكترونية عن طريق حساب افتراضي يتبادلون الدخول عليه، والتحدث عن الكتب والموسيقى والأفلام. حساب سور الأزبكية: https://www.facebook.com/azbakya?fref=ts.. كنت أريد أن أخصص المقال للتحدث عن تجربتهم الجميلة، لكني آثرت أن استشهد على تجربتهم وتيهتنا باقتباس من رواية أحبها وهي: “التائهون لـ أمين معلوف”.
“غالباً ما يدور الحديث عن سحر الكتب، ولا يقال بما فيه الكفاية إنّ هذا السحر مزدوج. فهناك سحر قراءتها، وهناك سحر الحديث عنها.”
هذه الرواية التي تتحدث عن بضع أصدقاء جمعّتهم الدراسة الجامعية والصداقة وشبهة الحب والغرام، وفرّقتهم الحرب. فمنهم من آثر الغربة ومنهم من اختار النضال إما شهيدا في صفٍ لا يعلم أهو الخير أو الشر، أو مصاحبا للعدو خائنا للعهد! قرأت هذه الرواية بنسختها الإلكترونية بناء على توصية غير مباشرة من صديقي الافتراضي من خلال اقتباساته عنها، وفيها وجدت جزء من الفوضى التي تواجه واقعنا أنا وأصدقائي، وتجبرنا على التمسك بخيالات الحب التي تجعلنا نستقوي بالموسيقى على الواقع الذي أجبرنا أن نعيشه. ومن خلال الرواية انغمست في عالم ليس خياليا يمنعني عن الواقع، بل هو منغمس في الواقع لأقصى حد، فيجبرني على التساؤل، والتوقف عند كل جزئية، لأفكر! لا لأهرب! بل لأتمكن من العيش، خلال الأحداث تساءلت عن السبب الذي يجعل مِصر بعيدة عن الحرب الأهلية! وما الذي منع حربا مشابهة من النشوب على أرض هذه البلد؟ بم نختلف عن بلد مثل لبنان- بلد الرواية- حتى نأمن الحرب التي قامت فيها، في خيالاتي الرومانسية تخيلت أن السبب هو الحب، صدّقت بطفولة ساذجة أننا نعرف الحب هنا في هذا الوطن، لكن هل هذه هي الحقيقة؟ هل ما يمنعنا عن أكل لحم جيراننا أحياء هو الحب؟ أو ربما كان الخوف! أو أسباب أخرى لم نتعرض لها بعد! لم أتوقف عن التساؤل خلال قراءتي، ليس فقط عن الحرب الأهلية، بل وعن الاتجاهات السياسية والفوضى التي تثيرها، هل اتعاطف مع الاتجاه الإسلامي بناء على الظلم الواقع عليه أو لا؟ “الناشطون المتطرفون مثله يصبحون حتما طغاة في يوم من الأيام، لكنهم اليوم مضطهدون في أغلب بلداننا وفي الغرب ينظر إليهم كأنهم الخطر الماحق. أترغب في الدفاع عن أحد المضطهدين فيما تعلم علم اليقين بأنه سيتصرف غدا كطاغية؟” ماذا نفعل نحن إذاً الذين شهدنا طغيانهم، وضعفهم من بعده؟ هل نتخلى عن ضمائرنا التي تدفعنا للدفاع عن أي مظلوم؟ أو نتناسى عدوانهم الفائت بل والقادم إن حازوا على فرصة جديدة؟ فإذا ما اخترت أن تقف على طريق ما، فكيف تتأكد أنك على حق، لا مقياس واضح للحق، ولا نعرف أحدا قد عاد بعد الموت ليخبرنا أن ما اختاره كان الحقيقة؟ كيف يمكن لأحد أن يؤمن بهذه الثقة لدرجة الموت دون معتقده بشيء لا يمكنه إثباته. “لا أعرف بعد الموت سوى العدم، فماذا يوجد وراء ذلك؟ لا أدري.. هل يوجد شيء ما؟ لا علم لي.. أرجو ذلك، إنما لا أعرف، وأشعر بالريبة إزاء من يدّعون المعرفة، سواء كانت أشكال يقينهم دينية أم ملحدة.”
شئت أم أبيت، ستتوه في قراءتك لهذه الرواية، ربما كان هذا السبب وراء اختيار الكاتب لعنوان روايته، الذي أجده موفقا لدرجة كبيرة. وربما لا. المهم أني تهت في واقع الرواية الذي يصّور واقعنا بشكل أو بآخر، فخفت الهزيمة التي تلتف حول رقابنا منذ قرون، وشبح المؤامرة الذي يطاردنا. ترى من المخطئ في الهزيمة! هل نحن نقف مكتوفي الأيدي فعلا كما هيئ لنا أباؤنا من قبل؟ “المهزومون ينزعون دوما لإظهار أنفسهم بمظهر الضحايا الأبرياء. لكن ذلك لا يطابق الحقيقة، فهم ليسوا أبرياء على الإطلاق. إنهم مذنبون تجاه شعوبهم، ومذنبون تجاه حضارتهم. ولا أتحدث فقط عن الحكام، بل أتحدث عني، وعنك، وعنّا جميعاً. إذا كنا اليوم مهزومي التاريخ، وإذا كنا مذلولين بنظر العالم أجمع كما بنظرنا، فالحق ليس فقط على الآخرين، بل علينا أولا”. شبهة الذنب تلك التي تحدث عنها الكاتب، تشبه التيه الذي يتعرض له الشباب من جيلي، والجيل الذي يسبقه. نحن وجدنا أنفسنا في دائرة مسؤولية القرار الذي اتخذناه، وحاربنا من أجله فقُتلنا، وأُسرنا. ولم يتبق لنا شيء نتمسك به! كل الآمال تسرق من بين أيدينا عنوةً، فإذا ما امتنعنا عن الخوض في الأمر، أُسرنا بتهمة الصمت! أصبحنا نرعبهم إلى هذا الحد. وسط هذه الفوضى أصبحنا نلجأ لفوضانا الخاصة. نتلو الشعر ونستمع إليه، نغني أغاني الأطفال على الكورنيش، ونحضن خيباتنا في صمت. ونلتهم مخاوفنا مع البطاطس المقلية. لكننا وإن تهنا فلن نتوقف عن البحث، سنهدي بعضنا مقاطع الموسيقى في أعياد الميلاد، وسنغني معا تحت الرصاص وسنقرأ لا لأن الحياة التي نعيشها لا تكفي، بل لأننا ما عدنا نطيق أن نعيش هذه الحياة. فآثرنا أن نتوه وأن نجتمع على التيه فنتوه معا.
لتحميل الرواية.. اضغط هنا: