اليوم : الثلاثاء 27 اكتوبر 2015

مورجان فريمان يتعرض لموقف غريب في مصر ومحاولات فاشلة لممارسة الشرطة الفنية عليه.

منع الفن ميدان فرقص جحافل الطلبة في احتفالية ضد الإدمان في الجامعة تنتهي بشطب الأسر المنظمة وتقريع الجميع، الشباب والمجتمع والفن.

منع الجمهور عن مباريات الكرة والأولتراس يشتعلون حماسا في تدريبات الأهلي في عزوف تام عن الانتخاب.

– منع دخول كتاب يوثق لجرافيتي الثورة والحكومة تمسح الجرافيتي وتجرمه، ثم تغلق مسجد الحسين علشان تمنع الإحتفال بعاشوراء.

قائمة لا نهائية من الموانع والغرائب والطرائف، ولو حاولت حصر المواقف الدالة على انفصام المجتمع عن المشهد السياسي الذي تحكمه العقلية الأمنية، الوقت مش حيساع، ولو الوقت يساع بتصير ما بتنذاع بتجرسنا العالم.. “كفاية”

على رأي زياد رحباني:

(اغنية مش قصة هاي)

……….

وبالنسبة لعلاقة الفن بالسلطة…

“الفن كسل وشوية ناس عايزة تقضي وقتها تلعب بالألوان وتحكي قصص وتغني وترقص – البلد في أزمة اقتصادية ومش فاضية للهيافة.” تمام؟

أومال ليه “الفن خطير خطير وبيتسلل لعقول الناس ولازم نفتش عليه طول الوقت، لأن بينما الدولة بتبني، الفن بيخرب – البلد في أزمة اقتصادية خطيرة ومش حمل خبث الفن.”؟

طيب تمام..

يعني الفن خطير وهايف في نفس الوقت؟

في كل الأحوال الدولة عندها وقت تراقبه وتحبسه وتمنعه بس ما عندهاش وقت تسيبه في حاله.

الفن أهم حاجة في الدنيا، لأنه بيخاطب الحدس مش العقل الواعي فقط. بيخاطب كل ما في روح المبدع وروح المتلقي.. بيخاطب ما هو أبعد من شوية الحاجات اللي يعرفوها كمعلومات حاضرة على سطح الذهن.. الفن بيستحضر أذكى ما في الإنسان وأعقد ما فيه، سواء اللي بيقدم الفن أو اللي بيتلقاه.. الفن بيصون أهلية الإنسان.

علشان كده بيقولوا ما يحدث على الساحة الفنية مؤشر لما يمر به المجتمع.. مؤشر فعلا.

فن متيبس متكرر إلى الأبد يقوم “عليه” أفراد بكارنيه، وترعاه الدولة، ولا يحب إلا الاجترار في المواضيع والأدوات والأذواق، ويعتبر التنوع في التعبير أو التعبير عن أشياء متنوعة، هرطقة بيّنة وتلوث.

يكثر في هذه الأجواء الكلام عن النظافة والقذارة والفرز والتقنين والقولبة.. المديح والشجب نفسهم بيتكرروا بنفس العبارات والصيغ.. أي تابوت من الأفكار الممضوغة المحفوظة لا تدهش أحدا، لأنها تحت السيطرة تماما.

وعلى الطرف الآخر من الطيف الفني في مصر، هناك فن حر بالفعل.. به شباب وبه كبار، لكن الشباب عدده أكثر بشكل ملحوظ.. أعداد وأعداد من المصريين يجربون ما يطوف بأرواحهم من رؤى وأفكار.. يساعدون بعضهم البعض على تحقيق التجارب، وتخرج منهم فنون متنوعة شكلا وموضوعا. وفي الطريق بين طرفي الطيف، يوجد كل شئ طبعا، لكن علينا أن نعترف أن الساحة الفنية ليست متدرجة، فبسبب قسوة تيبس الفن المسيطر النتيجة أن أي شخص به نتفة رغبة في التعبير الفني مهما كانت ضعيفة، يجد نفسه سريعا يختار بين الحرية والتابوت.

ده انعكاس أمين لما يحدث في المجتمع الآن.. هناك ناس في السلطة بالفعل، يتحكمون في المقاليد بالفعل، ومنهم ناس يتولون مقاليد الفن بالتحديد.. ناس كانوا بيسيطروا على صكوك الفن من أيام مبارك وفيه منهم من قبل مبارك كمان، فوجئوا بما ظهر من إبداع جاء بالثورة ومع الثورة.

مافيا فعلية، الواحد منهم لو بص لحد يرفعه للسما أو يخسف به الأرض.. زي مارلون براندو في فيلم “الأب الروحي” بتاع كوبولا الجزء الأول.

والناس دي لا تزال تتحكم وتسيطر على الساحة، وتدعمها بقية أجهزة الدولة بطرق عدة، أولها السماح لها بالتربيط والتظبيط إن ما كانش بالتكليف المباشر، وهنا تتزاوج احتياجات السيطرة الأمنية السياسية لمومياوات الحكم، مع احتياجات السيطرة الاحتكارية لمومياوات الفنون. بيسموها “هيبة الدولة والشخصية المصرية والهويّة الأصيلة”.. يسمون كل ما يهزّ عرشهم المتهتك “هدما للدولة”، ودفاعهم عن سبّوبتهم “حماية الشخصية المصرية”.

اللي لمحوه من أفكار مبتكرة وقدرة على الإبداع ومخاطبة الروح بالفن بيهدد مكانتهم، فانتفضوا يدافعون عن مصالحهم.

على طرف النقيض من الطيف مؤشر فني آخر على ما يحدث في المجتمع، جماعات كثيرة الانتاج كثيرة الأفكار ضعيفة الموارد ممنوعة من التواصل مع جماهير المنابر الكبرى. والفنان هنا لا يريد ولا يطمح لأكثر من أن يتواصل مع جمهوره مباشرة في الشارع، ولذلك فالفن في الشارع يكاد يكون ممنوعا أيضا، أو في الطريق للمنع التام.

انتفاء حضور هذا الفن المزدهر على وسائل الإعلام لا يمثل حجمه.. حجمه رهيب.. ويحدث على أي حال، بإذن أو بدون إذن من حاملي مفاتيح السلطان، يحدث وراء كل باب وفي كل بير سلم، زي الحب.

النتيجة أن الساحة الفنية مؤشر أمين على المجتمع المصري.. ناس معاها كل السلطة وتكره المغامرة والتجربة الفنية وتحاول تقييد كل شئ ليبقى تحت السيطرة، وناس معاهاش أي سلطة بالمرة وعايشة على ما تشعره من الواقع، ولا تستسلم للعبودية الجديدة المقترحة من السلطة بعد ثورة يناير.

ما يحدث على الساحة الفنية يشبه كثيرا فعلا ما يحدث في المجتمع.

الأزمة تأتي من صعوبة السيطرة على الإبداع، فكلما تألق المبدعون.. كلما شعرت المومياوات بالتهديد.. كلما حاولت تضييق الحصار على الحرية، كلما وجدت الحرية وسائل جديدة للخروج إلى النور، فمن يستطيع أن يمنع شخصا من أن يرسم أو يكتب في بيته؟ أو مجموعة شباب من تصوير بعض في الحارة الجانبية؟ أو يمنع تسجيل حديث بين اثنين بالتراضي؟

صعب.

ولذلك تزداد وسائل المومياوات تطرفا وغرابة: فهاهو وزير العدل (الزند) يعطي نقيبا من نقباء الدولة لتنظيم الفنانين ما يسمى بالضبطية القضائية وهي كاريكاتير مضحك لإنسان يأخذ الحق المطلق ليس فقط لتوزيع صكوك الفن على زملائه، بل تعطيه قوة الشرطي.. ينزل ويمسك أي إنسان من قفاه إن مارس فنا دون أن يأخذ صك الفن منه.

هذا نوع من السقوط في بلاعة السيطرة، يتمخض عنه وضع يكاد يكون طريفا بين الفنانين والمومياوات.. يمارس فيه الفنانون الفن تقريبا في شكل استغماية في مواجهة السلطة.

كلما ضاقت المساحة التي يمكن للفنان أن يمارس فيها فنا يمسك العصايا من النص، كلما تطرف الفنان في أحد الاتجاهين، إما في محاولة الدخول في القالب الذي يزداد ضيقا أو يجد نفسه خارج القالب الضيق لا يقيده أي شئ بالمرة، ولأن ثمن الخروج من القالب باهظ على المستوى الشخصي، لا يبخل الفنان الحرّ على فنه بشئ، ويخرج الفن شديد التحرر لا يراعي إلا الرؤى الابتكارية التي في داخله.

وبينما تنزلق الدولة ومحتكري الفنون في رجس من أعمال البوليس الفني، ويضيق صدرهم بكل افتكاسة، ويعطون أنفسهم الحق في التفتيش على كل شئ، بما فيها لمعة العين وغرضها الخفي، مثل ما حدث مع أبلة فاهيتا، يتحرر الفنانون أكثر وأكثر لانتفاء أي مساحة وسطية مقنعة.

اللي عايزة اقوله من الكلام ده حاجتين:

أولا: إن المجتمع بخير بدليل زخم الإبداع الفني خارج القالب البوليسي (بالرغم من صعوبة متابعته)، والحاجة التانية اللي عايزة اقولها، هي أن في الحقيقة حاجة زي الضبطية القضائية اللي في إيد شخص، على ما بداخل كل مواطن من فنّ كامن، بالرغم إنها خطيرة لأنها حتكتم نفس فنانين كتير، إلا إنها في نفس الوقت بتؤدي إلى تجذّر فنانين كتير.. فنانين حيحسوا إن الفن أصبح تهمة، ممكن واحد بتكليف من الدولة يدخلهم السجن بسببها، حايمارسوا الفن في السرّ أو شبه السرّ. وعندما يمارس الفنان فنه في السرّ، فأنه يضع يده بتلقائية على ما يجعل فنه متميزا.. يدرك أهمية فنه بسهولة أكثر، ويزداد ثقة في أفكاره ورؤاه.

من هذه الناحية، شكرا للضبطية القضائية، فبينما ستزداد نزعات الرقابة الذاتية والإنصياع للسلطة عند البعض، إلا أنها ستحرر خيال وإرادة الكثير من المبدعين.

ولمن لا يعرف.. الضبطية القضائية كانت في يد النقابات المنظمة للمهنة بالفعل، والآن اصبحت في يد أشخاص.. ٣ أو ٤ أشخاص بالاسم.

الشخص الذي يقبل، بل يسعى أن يأخد في يده سلطة الضبطية القضائية الفنية على زملائه، بطبيعته ابن عقلية أمنية كلاسيكية ومتشرب بطريقة سلطات الأمن المصرية التي تمر بمرحلة غشومية لا حدود لها.

الوصول إلى حد أن يعطي وزير العدل لسين من الناس وهو نقيب الممثلين في هذه الحالة – سلطة الضبطية القضائية على ممارسي الفن، عرض متقدم لمضاعفات مرض الفاشية.. الفاشية ما هي إلا الاحتياج القهري للسيطرة.. السيطرة التامة حلم لا يبارح خيال المواطن الشرطي.. أن يكون على علم بكل شئ ومسيطر على كل النفوس، بحيث يستطيع أن يرصد أي حركة في أي مكان وزمان، ويستطيع أن يحدد فورا إن كانت قديمة أم جديدة.. القديم حلال والجديد حرام حتى يتم فرزه وتصنيفه وتقييده بالسجل، فيصبح قديما، أي معروفا لديه.

السيطرة حلم من أحلام الإنسانية منذ القدم.

افتكرت دلوقتي المجرم حبيب العادلي في حوار مع مستفيد فوري.. اقصد المذيع مفيد فوزي يوم ٢٥ يناير ٢٠١١ بالليل: “الشرطي الخايب هو اللي يحس إن كل شئ تحت السيطرة.. الشرطي الحقيقي هو المتوجس دائما.. لأن دائما في شئ خارج السيطرة، وهو يبحث عنه علشان يدخله تحت السيطرة”

كل ما افتكر اللحظة دي وأنا في البيت راجعة من المظاهرات باتفرج مع ماما على الراجل ده بالذات بيقول الكلام ده بالذات للمذيع ده بالذات، أحس إني فهمت حاجة.

الضبطية القضائية لن تؤدي إلا لمزيد من الانفصام بين ما يمكن التحكم فيه وما يخرج تماما عن التحكم.

واهدي لقارئ المقال اقتراح بفيلم اماديوس، وهو فيلم عن الموسيقار العبقري “موزار” أو “موتسارت” Mozart

فيه وصف بليغ جدا للعلاقة بين الساحة الفنية عندما تشرع لتثبيت أقدامها وإعادة انتاج نفسها أمام تجلي إبداع جديد لا تخطؤه العين.

الفن خطير لأنه لا يمكن السيطرة عليه في الواقع.. والموضوع ده مالوش حلّ.. الفن سائل وغاز (كالمجتمع) والسيطرة حديد وصلب.

خفوا إيدكم عن الإبداع، وافقدوا السيطرة لاحسن بقيتوا ملطشة المجتمع.

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك