اليوم : الثلاثاء 27 اكتوبر 2015

 

(1)

كانت البداية خاطفة بحق، هناك في ثمانينيات القرن الماضي، مطرب لا يعرفه أحد يصدر أول ألبوماته، يغزو الأسواق، يحطمها تحطيما، حتى إن أحد أغنياته “ميال” أصبحت –حينها- الأغنية الأشهر على الإطلاق، حتما “عمرو دياب” لم يكن يعرف أن عنوان أول ألبوماته “ذكريات” ستصبح الكلمة الأكثر ارتباطًا به، بل سيأتي يوم عليه لن يتبقى منه فيه سوى الذكريات.. كما هو الآن.

أحببت “عمرو دياب” حبا جما، ثمة روح متراقصة بين نغمات صوته جذبنتي، كان يكفي أن استمع إلى صوته قادما من هنا أو هناك لأنتبه واستمع بشعف، أكرر الاستماع حتى تثبت كلمات الأغنية  في ذهني.

غيرني “عمرو دياب” إلى الأبد، جعلني أفقد الثقة في كل أنواع الموسيقى، خان كل شغفي به، تحول إلى “بغبغان” لا يفعل شيئا سوى إعادة انتاج أغانيه القديمة في ثوب أكثر قبحا، يظنه هو أكثر حداثة!

– إن بعض الظّن إثم.

(2)

كنت صغيرا، اقضي كثيرا من الوقت بصبحة أبناء عمي في الطابق السفلي لشقتنا، استمع يوميا إلى نفس الصوت قادما من “الكاسيت”، بمرور الوقت صرت مُحبا لهذا الوقت، متذكرا له عند سماعه في أي مكان، أدركت بعد ذلك أن صاحب الصوت يسمى “عمرو دياب”، صرت أتتبعه، ومازلت.

في السنين التالية تبدل “الكاسيت” بسماعات “الكمبيوتر”، الذي يوفر تشغيل قائمة طويلة من الأغاني، أجلس بالساعات مستمعا لعمرو دياب، أغان تجر أغاني، حتى إنني ذات مرة سألت ابن عمي “إنت بتشغل أغاني عمرو دياب كلها؟”، أجاب “لأ، بس بحب له أغاني كتير”.

أنا أيضا أحب لـ “عمرو دياب” أغان كثيرة، لكني أكره أكثر منها، أكره كل الإبتذال الذي قدمه في آخر عشر سنوات.

(3)

كونك أحد أفراد جيل التمانينيات والتسعينيات، سبب كافِ جدا لأن تكون “حبيت على أغاني عمرو”، جلست بالساعات تستمع لأغانيه وتتخيل، تستحضر وصف الحب والحبيب كما يغينه، تطبقه على من تحب، تفترق، فتعد قائمة أخرى من الأغاني، تتحدث هذه المرة عن الفراق.. لكُل مرحلة أغانيها، ولكل مطرب مرحلته.

تخرج بصبحة من تُحِب إلى هذا المكان أو ذاك، تتهامسان على أنغام أغنية “عمرو دياب” الجديدة التي وصلت إلى الكافيهات قبل أن توجد عند أغلب الباعة، تصير تلك الأغنية ملاذا للذكريات، كلما سمعتها تتذكر ذلك اللقاء، وربما مثلي تتذكر ما صار إليه “عمرو دياب”.. لقد قتل نفسه!

(4)

كل الأفراح التي ذهبت إليها في السنوات الأخيرة، لابُد أن يحتل “عمرو دياب” قائمة أغانيها، صرت أوقِن أنه تحول إلى مجرد مغني أفراح، يغني من أجل العروسين ولياليهم، يصنع ألحانا صاخبة ترضي جيوب أصحاب الفرح، الذين يشعرون بأن مالهم لم يضع كلما علا صوت “الدي جي”.

أصدر “عمرو دياب” في 2013 ألبوما بعنوان “الليلة”، الأغنية التي حمل الألبوم عنوانها هي أكثر الأغاني حظا في الأفراح، لا يخلو منها أي فرح، كلماتها تنطق بأنها مُصممة خصيصا لهذا الغرض، نجح “عمرو” في أن يجعل نفسه مطربا للأفراح، لكن ذلك لم يكن ممكنا دون أن يقتل نفسه.

أراد “عمرو دياب” أن يواكب التطوير فأرداه التطوير قتيلاً، صنع منه مجرد آله، تنطق بلا إحساس أو شغف، مجرد مُؤدِ مثله كمثل مذيع قاريء لنشرة إخبارية، بصحبة موسيقى رديئة.

(5)

رحلة طويلة من الغناء، جعلت من “عمرو دياب” المُعبِر الأول عن فترته، وهو ما استشفه السيناريست المتميز “محمد أمين راضي”، فجعل من أغانيه تيمة رئيسية في مسلسله الأجمل “نيران صديقة”، كل حلقة تدور أحداثها في سنة بمفردها، يأتي “راضي” بالألبوم الصادر في السنة موضوع الحلقة، فيختار منه أكثر الأغاني تعبيرا عن أحداث الحلقة، ويجعل هذا البطل أو ذاك يستمع إليها.. أعاد “راضي” إحياء أجمل ما غنى “عمرو دياب”، بخاصة أغنية “عودي يا ليالي” التي غمرت بالحنين كل من اسمتع إليها خلال أحداث الحلقة الأولى.

لكن الليالي لم تعد، وكيف تعود الليالي إذا كنا أمام مغني لا يدرك أن كونه معبرا عن مرحلة زمنية مسئولية ثقيلة تلزمه بألا يخون محبيه ويدمر ذكرياتهم ويجعلهم يكرهونه كما يفعل الآن؟!

(6)

كان والدي كلما مر إلى جواري وأنا استمع إلى “عمرو دياب” يحدثني بأن “أغانيه كلها شبه بعض”، وهو حديث جزء منه صحيح، لـ “عمرو” لون واحد ومختلف، تيمات مميزة، استغلها جيدا فأخرج منها أغان كثيرة جميلة رغم تشابه ألحانها، إلى أن وصل ذلك الاستغلال حد الابتذال.

صار مبتذلا، كبدلة قديمة أراد صاحبها جعلها تشبه البدل الجديدة، فبعث بها إلى خياط فاشل، أزال ما فيها من جمال، واستبدله بقبح خالص، فلا طالت بلح الشام أو عنب اليمن، رقصت على السلم، فظلت حبيسه به إلى الأبد.

(7)

“واحد مننا” الأضحوكة الأكبر، يتحدث “عمرو دياب” عن “حسني مبارك” فيقول “اللي ضحي لأجل وطنه” ولا أعرف عن أي وطن يتحدث، إلا إن كان لهما وطن يجمعها معا لا نعرف عنه شيئا، يستكمل هراءه فيقول: “اللي حلمه حلمنا، اللي فرحه فرحنا” فعلاً؟ بماذا كان يحلم أو يفرح المخلوع مبارك غير بمزيد من الفساد والتعبئة لحسابات البنوك السويسرية؟ لم أحلم أو أفرح يوما بذلك، وأعرف كثيرون مثلي، ملايين خرجوا في ثورة الخامس والعشرين من يناير ليعلنوا أن المخلوع مبارك ليس واحدا منهم.. بل هو واحد منك أنت يا “عمرو”.

(8)

في أوج شهرته” تحديدا عام “1999” أصدر “عمرو دياب” أغنيته الشهيرة “أنا مهما كبرت صغير”، موجها حديثه إلى عمالقة فن الغناء مثل أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، في كلمات تقبل التورية جعلت الأغنية صالحة لأغراض كثيرة، من يسمعها ليتأكد أنه لم يكبر بعد، ومن يسمعها لأنه يحبها دون أسباب أخرى، ومن يرفق كلمات منها بصحبة إحدى الصور الحديثة لـ “عمرو دياب”، قليلون جدا هم من يسمعونها لإعجابهم بكلام عمرو عن ذاته التي لا تكبر، وأنا لست منهم.

“أنا مهما كبرت صغير” كذب في صورة غناء، لو لم يكبر “عمرو دياب” ويصيبه الغرور بالفعل، لما كان وصل إلى حاله السيئة القبيحة الحالية، لما كان شوه الذكريات وقتل الأحلام، لما كان تحول إلى مجرد مؤدي، لما صار آله في هيئة إنسان، لما غنى لمُهلِك البلاد والعباد “مبارك”، لما كرهته، ولما قتل نفسه.

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك