تفرغ الغرفة علينا الآن.. لا يوجد سوانا في استراحة الأطباء الملحقة بتلك المستشفى.. الجراح الشهير وأنا.. انتهت العمليات منذ نصف ساعة وانصرف الجميع، وبقيت أنا وهو.
كنت أعرف أنه عازب لم يتزوج أبدا, وكنت أعرف أنه غني برغم أن عمره لم يتجاوز الثانية والأربعين.. ساعته وحذاؤه يقولان الكثير بالنيابة عنه, ناهيك عن سيارة سوداء وقحة بالأسفل تنتظره.. واحدة من تلك السيارات التي يكتبون عليها دائما لفظة “كومبروسور” اللعينة.
لا أظن أن راتبي الحكومي لثلاث سنوات متصلة يصلح لشراء مصباحها الأمامي مكسورا.. عندما يتأخر هكذا, أعرف أنه لا يريد الذهاب إلى بيته, واجلس إلى أن يمضي.
خفض أستاذي نظره من شرود النافذة المطلة على الشارع, وبادرني قائلا: ” أنا سمعت إنك بتكتب قصص وبتاع!”
أجفلت للحظة و لم أدر بما أجيب, فقلت: “ده كلام والله يا باشا بس”, فنظر إليّ ثانية وقال: “سيرتك جت في العمليات النهاردة وسط زمايلك, بيقولوا إنك مش بطال” . خاط الصمت شفتاي وفضلت السكوت, فأدلى نظارته الطبية على أنفه قليلا, وابتسم بخبث وقال: “تحب تسمع قصة حلوة؟!
“لم أحب النساء في حياتي أبدا, لكني أحببتها وأحببت البرقوق.. انحدر من أسرة فقيرة نسبيا, كان أبي عاملا في مصنع للبسكويت بالقاهرة، كنت صغير السن والعقل، وكان البرقوق صديقي.. البرقوق الأسود حريف المذاق.. أحبه بعنف شديد، وأضع النقود فوق بعضها لأشتريه.
البرقوق فاكهة غالية الثمن دائما, لا يقدر عليها أبناء طبقتي, ولم أطالب به أبي أبداً, أعلم جيدا أن ثمن الكيلو قد يتجاوز مصاريف معيشتنا ليوم كامل.
كنا صغاراً.. ضمتنا عربة واحدة إلى منطقة الكليات بالجيزة من حيث نسكن بإمبابة.. تشاطرنا المقعد الخلفي الواسع ونظرت إليّ نظرة أحببتها, فقلت للسائق بصوت جهير: “خلاص ورا كده يا اسطي.. أنا هاخد نفرين”, ثم جاوبت نظرتها بمثلها وقلت: “تقدري تقعدي براحتك, مفيش حد جاي تاني”.
تحدثنا كثيرا حتى توقف الوحش الحديدي ولفظنا إلى الشارع, فقالت لي: “حنتقابل تاني؟”, وابتسمت، ومضى كل منا إلى كليّته.. هي إلى الآداب وأنا إلى الطب البشري.
يقولون إن البرقوق مفيد جدا لفقر الدم, ويبدو أنه غني بمضادات الأكسدة أيضا.. لا أدري.. أنا احبه وكفى, واذهب إلى عم سيد في حانوته الصغير وأخبره أن يعطيني بتلاتة جنيه برقوق.. البرقوق أسمر دافئ حنون كقلب حبيبتي, وفي ذلك اليوم اسميتها برقوقة.. برقوقتي.
لم تحتمل برقوقة كثيرا.. اتساع عينيها أمام متاجر شارع شريف قال الكثير.. لا يكتمل مشوار الطب دون أن يلعق أنفك التراب وتحتك جبهتك بأسفلت الشارع, ولم ترغب هي في ذلك.
كانت تحلم بالسيارة الفارهة والتلفاز المسطح والكثير من البرقوق.. تزوجت من مهندس يكبرها سنا بتسع سنوات يعمل بالعراق, ثم سافرت معه ولم أرها ثانية.. علمت بعد سنوات أن زوجها توفي في هجوم إرهابي وترك لها طفلا رضيعا.
أمس مرت ثمانية عشر عاما على تخرجي في كلية الطب.. صرت أستاذاً وطبيبا لامعاً.. اركن سيارتي واهبط بجوار بيت أهلي القادم لزيارتهم, وأراها تعبر الطريق كاسفة البال لا تلوي على شئ.. تمسك طفلا بيدها، وتحارب السواد حول عينيها.. قد غزتها التجاعيد، لكنها لم تزدد إلا جمالا.
حاولت أن ألحقها، لكنّي لم أستطع.. خانتني قدماي.. كنت سأقول لها إني أربح كثيرا وأنفق كثيرا ولم أتزوج قط.. املك سيارةً فارهة وتلفازاً مسطحاً وقلباً كبيراً.. اقدس الحياة الزوجية ولا آكل البرقوق.