تلك الإشكالية التربوية المركّبة التي أحاول دوما الإلتفاف حولها وإيجاد حلول وسط في التعاطي معها، وتجاوز تناقضاتها، إشكالية معقدة لا شك، تتلخص في حرصي “التربوي” الحثيث على بث رسائل دائمة لأولادي تكرس لمبدأ احترام حرية الرأي والفكر والعقيدة، والانفتاح على كل الأفكار، واحترام الاختلاف وتقبله، إلى جانب محاولاتي المستميتة لمجاهدة نفسي -بصعوبة- وإصراري على نبذ الاستبداد والتعنت وفرض الرأي، والبعد التام عن الركون إلى أساليب القمع الفاشلة وغير المجدية، كل هذا من جهة، تزامنا مع واجبي التقليدي في توضيح وشرح ماهية بعض التقاليد والإلتزامات العائلية والمجتمعية النمطية، بل وبعض الطقوس الدينية في بعض الأحيان من جهة أخرى، كما حدث منذ أيام وقبل حلول شهر رمضان الفضيل، عندما حاولت أن أشرح لابني الأكبر (آدم) ذو الـ 8 سنوات شرحا مبسطاً عن فكرة الصيام وفلسفته!
أنا (في محاولة إيجاد جو روحاني مهيب): آدم، رمضان خلاص قرب.
آدم: رمضان كريم يا ماما.
أنا: الله أكرم يا حبيبي.. إيه بأه؟ هتصوم معانا شوية السنة دي؟
آدم (غير مبال كعادته): أصوم؟ إيه أصوم دي؟
آدم: تصوم يا آدم.. يعني ما تاكلش وما تشربش لحد آذان المغرب، لما الشمس تمشي.
آدم (ضاحكا ): ليه؟؟؟ أعمل كده ليه؟؟؟
الحق أنني لم أقتنع شخصيا قط بالنظرية الأكثر رواجا بهذا الصدد والقائلة أن هدف الصيام هو الإحساس بالمحروم والتعاطف معه، وبالتالي استشعار المسئولية الاجتماعية تجاه من هو أضعف أو أحوج، وكنت دوما أميل إلى النظر إلى الصيام كوسيلة لكبح جماح النفس وتهذيبها بشكل مجرد، لكنني وجدت نفسي أروج للنظرية الأولى في خطاب نمطي ومستهلك ورتيب!
أنا: نعمل كده علشان في ناس معندهاش أكل، ومعندهاش فلوس، ضروري نفكر فيهم ونحس بيهم وبمعاناتهم علشان نقدر نساعدهم.
آدم: لأ.. أنا هساعدهم من غير ما اجوع ولا أعطش.. وأنا جعان مش هاقدر أساعدهم، ولا هاقدر أفكر فيهم، لأني هافكر في الأكل!
أنا: ممم… طيب ما تصوم شوية صغيرين، جرب كده!
آدم: لا يا ماما، أنا هاكل وهاشرب وهاعمل بي بي عادي!
أنا: على العموم.. أنت لسه صغير يا حبيبي، أنا بس بافهمك إن ربنا قال لنا نصوم في شهر رمضان، وعلشان إحنا بنحبه بنسمع كلامه، لما تكبر شوية هتفهم ليه ربنا قال لنا نصوم.
تعمل بي بي؟؟؟؟؟؟ لأ البي بي شغال عادي في الصيام، هو مش تعذيب على فكرة!
أخذ الحوار وقتا و حجما فوق طاقة احتمال (آدم) المحدودة، واستشعرت رغبته القاطعة في إنهاء هذه الجلسة التي لا ناقة له فيها ولا جمل، فقررت أن أرجيء حديثي معه إلى العام القادم.
أنا: ماشي يا (آدم)، براحتك يا حبيبي، أنا قلت بس أديك فكرة كده.. عموما فكر شوية في كلامي.
في هذه اللحظة، بدا جلياً أن (آدم) قد وصل إلى أقصى درجات الضجر والشعور بالحصار، وأراد أن يتخلص من صحبتي بأسرع ما يمكن وبأي وسيلة ممكنة، فرمقني بنظرة ذات مغرى، وقال: خلاص يا ماما، فهمت، سيبيني بأة!
ثم صمت لوهلة واستدرك قائلا: عارفة؟ سيبيني بأه دلوقتي علشان أحس بالأولاد اللي معندهومش ماما وأقدر أساعدهم لما أكبر.
هاتقوليهملي نيللي نيللي… هاقولهملك شريهان شريهان.. اللي هو “لو طالبة معاكي صعبانيات بأه وإنسانيات ومؤسسات خيرية والجو ده، هاجيلك من السكة دي برضه.. بس حللي عني الساعة دي!”
أنا مالي أنا؟؟؟؟ أجيب لنفسي الكلام ليه؟؟! ما اللي يصوم يصوم، واللي يفطر يفطر، واللي يعمل بي بي يعمل!!! لازم أعمل فيها نبوية موسى يعني؟؟؟