اليوم : الأحد 03 مايو 2015

من خلال ترددي على دار ميريت، في موقعها التاريخي بشارع قصر النيل، علمت بالتجهيز لكتاب اسمه “تعليمات سيادتك” لضابط شرطة مُستقيل.

أعتقدت أنه كتاب معلوماتي عن ما لا نعلمه من تجاوزات بالمنظومة الأمنية المدنية.

مع ظهور الكتاب، فوجئت أنه لا وجود لما تخيلته من معلومات ووثائق، بل كل الحكاية كما لخصها ناشر الكتاب، محمد هاشم، أن الكاتب، محمد أبو العز، أكتشف أنه بيحب الكتابة أكتر من الضرب، فاستقال من الداخلية وأتجه لكتابة الأدب.

بقراءة العمل وجدت ما هو أخطر من المعلومات والتسريبات التي قد تثبت الفساد على أشخاص بأعينهم، وجدت سردا بسيطا يسحبك لداخل العمل لتخرج منه أمام حقيقة عارية تقول: “لا يوجد أمن في مصر”.

الكاتب ببساطة وهدوء رفع ضرباته عن قفا المواطنين ووجهها لمنهجية منظومة الأمن نفسها، حيث قدمت روايته إجابات لأي تساؤلات حول معايير ومنهجية العمل الشرطي في مصر.

س: كيف يتم اختيار رجال الشرطة؟

تأتي الإجابة من فصل “بعد أذن شاويش العبر”
ج: “ذهبت إلى الطبيب فأخبرني أنني أعاني من شرخ في طبلة الأذن، وقضيت أجازتي الأولى كلها في العلاج.. سكت الجميع عن حالتي، وهذا لم يكن له معنى سوى أنني لم أكن لائقًا طبيا لدخول الكلية من الأساس“.

س: ماذا يتعلم الطالب داخل كلية الشرطة؟

فيجيب من نفس الفصل
ج: ” الأمر الثاني الذي تتعلم إياه في كلية الشرطة هو الكِبّر، فأنت رغم أنك مقهور داخل أسوار الكلية، إلا أنك خارجها باشا.. أفضل من الجميع، هكذا يقولون لك.. بطريقة مباشرة أحيانا وكثيرا بطرق غير مباشرة”.

س: كيف تقاس كفاءة ضابط عن الآخر؟

تأتي الإجابة من فصلي “الإدارة العامة للجباية” و”شر الطريق”
ج: “الضابط يُقيم أولًا وثانيا وعاشرا وأخيرا بمجهوده، أي بعدد الرخص التي قام بسحبها، وليس بأي أمر آخر”.
المطلوب منك دائما في الكمين هو المجهود، والمجهود هذه المرة يختلف عن المرور، ويتمثل في القضايا الجنائية، مما يجعلك في بادئ الأمر ترهق السيارات المارة تفتيشا وبحثا، وترهق مستقليها إهانة وتعطيلا، بحثا عن سيجارة حشيش أو مطواة أو شريطين ترامادول”.

س: ما جدوى التواجد الأمني المكثف عن طريق الأكمنة المنتشرة في الشوارع؟

لا شيء أصدق في إجابة هذا السؤال من فصل “شر الطريق”
ج: “تكتشف عندما تأتي لحظة تحرير المحضر أنك مضطر لاختلاق قصة خيالية لم تحدث على الإطلاق! ليه بقى؟ لأن تفتيش السيارات في الأصل ممنوع، ولا يجيزه القانون إلا بموجب إذن من النيابة العامة أو في حالة وجود حالة تلبس صريحة“.
فتجد نفسك مضطرًا إلى تأليف قصة تحكيها في كل محضر تكتبه، لتختلق بها حالة التلبس المطلوبة، مثل أنك قد رأيت قطعة من مادة بنية اللون تشبه مادة الحشيش المخدر على تابلوه السيارة الأمامي! أو مثل أنه عندما رأى الكمين نزل من السيارة وجري!

ويحسم عبثية الأمر في فصل “نيابة”، خلال حوار الباشا ظابط المباحث مع الباشا وكيل النيابة، حين يقول وكيل النيابة: “على فكرة القضايا كلها خدت إخلاء سبيل”.

س: ما مدى إلمام رجال الشرطة بالقوانين؟

الإجابة من فصل “تعليمات سيادتك”
ج: “أنا لم أكن أعلم شيئا عن قانون الطواريء إلا عندما أثيرت أزمة “خالد سعيد”، وصدق أو لا تصدق أيضا، فحتى قامت الثورة، لم يكن أغلب الضباط يعلم أن هناك من الأساس ما يسمى بقانون الطوارئ، آه والله العظيم”.

وهو الفصل نفسه الذي يجيب عن السؤال حول معايير الكفاءة المعمول بها بين رجال الشرطة؟

ج: “ليس الضابط الكفء هو ذلك الضابط الذي على دراية واسعة بالقانون، وليس هو الضابط القادر على تطبيق القانون بحرفية واخلاص، بل إنه ذلك الضابط الملتزم بتنفيذ التعليمات!”

وفي الختام يأتي سؤال منطقي:
س: إذا كان رجل الشرطة لا يعرف شيئا عن القانون.. فكيف إذًا يؤدي عمله؟

فيجيب من نفس الفصل
ج: “في العمل (وخصوصا في المباحث) عندما يعترضك موقف فيه مخالفة ما للقانون، فإنك لست مطالبا باتخاذ الإجراء القانوني اللازم! لا. بل أنت مطالب في المقام الأول بالاتصال التليفوني برئيسك لكي تتلقى التعليمات بشأن كيف تتصرف وماذا تفعل، وقد يمتد هذا الاتصال التليفوني (حسب الموقف وحسب مرتكبه) إلى سلسلة من الاتصالات التليفونية المتصاعدة قد تصل للوزير شخصيا، وتأتي لك التعليمات في كل الأحوال بأمر من إثنين: إحبسه.. أو سيبه!، وليس للقانون أي وجود في المشهد من الأساس”.

خلاصة التحقيق مع الرواية أكد لي تفصيلتين كنت اعتقد فيهما.. الأولانية أننا نعيش عصر الـ “كأن”.. كأن هناك شرطة وكأن هناك دولة وكأن هناك قانون وكأن هناك معارضة وكأننا شعب، لكن بقراية الرواية دي يقدر القاريء وببساطة يدرك إن مفيش حاجة من دي حقيقة، وكله محض شبه.

“تعليمات سيادتك”.. مش شكل جديد في الكتابة، ولا أسلوب مبتكر في الحكي، لكنها نموذج في العبثية، والرائع أن مصدر العبثية مش خيال الكاتب، إنما الواقع المصري، فرصد الكاتب للواقع ده بقليل من المنطق صنع لوحة توضح الجنون والعبثية اللامتناهية اللي إحنا بنعيشها، وشاور بمنتهى السخرية المُرة على حقيقة بنرفض نصدقها، وهي إن مفيش أجهزة فاسدة محتاجة إصلاح… إنما مفيش أجهزة أصلا.

 

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك

اعلان

اعلان