اليوم : الثلاثاء 17 نوفمبر 2015

مما يحكى عن سقراط أنه قال: “تكلم حتى أراك”.
ولذلك .. ليت بعضهم لم يتكلم.
فالرجل العادي يمكن أن تعرف من كلامه بعضا من جوانب شخصيته وطريقة تفكيره، والسياسي من كلامه قد ترى توجهات حزبه أو أفكار تياره وجماعته، أما في بلدنا المسكين.. فحينما يتحدث الرئيس.. ثم حينما يتحدث كثيرا.. فإنك ترى بعضا من طريقة إدارته لشؤون الدولة وتلحظ طرفا من نهج نظامه في معالجة الأحداث.
الكلمات والخطابات والحوارات.. هي إحدى مرايا كثيرة تعكس لنا ما وراءها من طرائق التدبير والتصرف. وهذه هي المصيبة!
……….
يدخل الرئيس وقد أحاطه مرافقوه وأفراد تأمينه من كل الجوانب إلا الجانب المتفق عليه والمفتوح للكاميرا المنتظرة ليتم فتح الطريق للمحاور المنتظر في تمثيلية بدائية تقليدية سخيفة من مخرج فاشل.. ليبدأ الرئيس في الرد بهدوء شديد وابتسامة عريضة وثقة مصطنعة متذكراً بعض ما قيل له مرارا وراجعه قبل دقائق (من التأكيد على دعم السياحة والسماح للوفود الأجنبية بالمراقبة والتأكد، وبأن أنوار شرم لن تنطفئ)؛ فتنتظر المحاورة التالية دورها، تحاول أن تمد ذراعها بالمايك.. فيسمح لها بالدخول منتحبة متضعضعة تلتمس كلمات الطمأنة والاحتواء والتشجيع وعبارات الحكمة من زعيمها الملهم، وهنا سقط السيناريو، ارتبك الجنرال أمام جرعة التهتك والشحتفة الزائدة، فارتجل الرئيس ورد بطريقته التي يرتاح لها ويتقنها: (أنا مش عايزكوا تبقوا قلقانين كده.. ده انتيييييي  اااااا ده أنا ببصلك بتفاءل مش اللللل .. شوفي هي كلمة واحدة وأنا بقولها بقالي سنتين طول ما المصريين.. أنتي فاكرة حد يقدر يغلب المصريين؟! – ابتسامة استنكارية بلهاء- أومال أنتو إزاي كده؟.. ده إحنا مناكلش إحنا مناكلش وحنبني بلدنا.. أنتي فاهمة؟
إوعي تخافي.. ولا حد يخاف.. ولا حد يقدر.. محدش يقدر) – فاغرا فاه بعد الأخيرة، مفخما جميع حروفها، مالئا بها فمه. – تقول إيه للشعب المصري يا فندم؟
(حاجة واحدة بس.. كون كده… كده – قابضاً يده اليمنى بشدة- … أي حاجة سهلة)
(مش هناكل؟ مناكلش.. هنجوع يعني؟ نجوع.. إيه المشكلة يعني؟! لكن بلدنا بسلام وأمان.. وبنطلع لقدام والنجاح واضح ولسه حيستمر إن شاء الله.. متقلقوش)
قبل ذلك بأيام.. (أنا باقول… أنا باقول.. في خلال سنة واحدة، هعملك شبكة طرق ومواصلات.. تمسك مصر كده) قابضاً يده اليمنى كالعادة .
ثم في اليوم التالي عبر عن غضبه الشديد من أحدهم فقال: (مايصحش كده –كررها ثلاثاً بدون داعي- إيه الشغل ده؟!)
طبعا أرجوك ألا تصف تلك الكلمات والجمل المشوهة، وهذا الأسلوب الساقط بالخطاب الشعبوي الموجه للجمهور البسيط؛ فحتى الخطابات والجمل الشعبوية المهترئة تحوي قدرا أكبر من احترام عقول المستمعين، بل تعرف لها ولجملها بداية ونهاية! وليس بهذا التيه والتوهان.
إذن وما الحل ؟! ما سبب تكرار نفس الأسلوب بنفس الطريقة؟

……….

(انتو بتعذبوني عشان جيت وقفت هنا ولا إيه؟! أنا بكلمكم بجد)
ربما نجد هنا الجواب ، فهذه الجملة بالذات تخبرنا بطبيعة ما يسمعه السيسي ليل نهار ممن حوله.. تصف لنا وضع مستشاريه ونوع التقارير التي تصله.. ترينا الحالة التي عاشها الرجل وصدقها بفضل محيطيه وطباليه وموالسيه.
السيسي يرى أنه تفضل علينا وتطوع من أجلنا بما لم يكن يقوى عليه غيره، وضحى بنفسه وأمنه وكرامته وأمان أسرته، يرى أنه أنقذ بلاده من الانهيار والضياع.. يتخيل – أو ربما جعلوه يؤمن- أنه تحمل الكثير ليتقدم إلى هذا المنصب مدفوعا وعلى مضض!
وأنه بذلك يستحق الدعم المطلق والرضا التام عن كل ما يفعل وما لا يفعل؛ ويستأهل التصفيق الحار والإعجاب الشديد عن كل حركاته وسكناته وكلماته المرتبكة وتعبيراته السمجة وضحكته التي لا أجد لها وصفاً يناسبها.
وبالتالي، فهو لا يلقي بالا لما يقول.. ولماذا يكترث أصلا؟! وهو يعلم أنه مهما قال أو فعل فهو عين الحكمة والصواب وسيصفق ويشيد الجميع!
وإذن نستطيع تفسير استمرار العشوائية والتخبط و”الهرتلة” المسماة زورا بالتصريحات، فالنفخة الكاذبة وتعاظم صورة الشخص أمام نفسه لن تجعله يرى أنه يخطئ أو يجرم أو “يعك”.
ثم ما الدافع أصلا لتغيير الطريقة أو مراجعة النفس؟!
تخيل مثلاً أن عبد الفتاح السيسي تلقى سؤالا عن وضع الاقتصاد أو السياحة أو التعليم أو الأمن أو الصحة أو غيرها، فتفهمه ثم أجاب بهدوء وتعبيرات وجه عادية: (أننا وصلنا إلى كذا وكذا بسبب كذا وكذا وبدأنا باتخاذ كذا وتوجيه المسؤولين إلى ما ينبغي عمله بشأن كذا لننتظر النتيجة بحد أقصى في غضون المدة كذا أو بحلول شهر كذا). هل هذا ما يشكل فارقا مع غالبية مريديه وأنصاره؟ هل توصيف الوضع الحالي وشرح أسباب وصولنا إليه ثم استعراض بعض أو أهم الإجراءات المتبعة للمواجهة والحل وعلى الأقل استشراف أو توقع مدى زمني لحل الأزمة أو المشكلة.. يفيدهم في شيء؟ أو بالأدق يشكل فارقا مهما لدى السيسي ومن حوله ولدى بقائهم في سدة الحكم ورضا الجماهير عنهم؟! هل التفكير بهذا الشكل الذي يعكس أسلوبا ما أو طريقة في إدارة الأمور والأزمات سيزيد من فرص بقائه أو شعبيته عند هؤلاء؟!
الإجابة ببساطة.. لا.
السيسي لا يوجه كلامه لنا.. السيسي ومن ورائه نظامه وإعلامه يخاطبون شريحة معينة من مريديه وأنصاره بما يعرفون وعلى قدر عقولهم أو بالأحرى أقل من قدر عقولهم، وهكذا يبدو لهم بسيطا واضحا قريبا منهم.
وهذا هو الجانب الأكبر من المشكلة، فمؤيدوه ليسوا هكذا جميعا، نعم هناك شريحة كبيرة بهذه الحال المثيرة للشفقة ممن يصرخون فيك لأول وهلة بالمؤامرات الكونية والخوف على البلد.
لكن هناك أيضا ممن أيده وانتخبه ويسانده إلى الآن، من يرى – مثل من يعارضه – أن خطابه ساقط وتحركاته كارثية وجائرة؛ لكنهم رأوه أولا مخلصا من حكم من سبقه ممن ليسوا على هواهم، وصدقوا ثانيا وهم محاربة الإرهاب والتصدي للمؤامرات.
هؤلاء -بالمناسبة- متعطشون جدا لأي خطوة في الاتجاه الصحيح أو على الأقل تبدو كذلك من جهة ما، ينتظرون أن تكون ردوده أكثر ترتيبا واحتراما.. يتمنون أن يكون أداؤه بالإجمال أكثر تماسكاً.
وإلى أن يملّ هؤلاء من الانتظار فيصارحون – أنفسهم على الأقل – بما ليس على هواهم، سيظلون الأكثر نكدا وسخطا من الجميع.. فلا هم من قليلي الوعي تسكرهم النشوة، ولا عارضوه وارتاحوا!
……….
الخطر الحقيقي والمؤامرة الأكبر على البلد.. أنها تدار وتسير شؤونها بطريقة لا تختلف كثيراً عما نراه في لقاءات وحوارات وكلمات الجنرال! وبالتالي وصلنا إلى أنه ليس لديهم مشكلة في تجويع البلد وناسها؛ وقس على ذلك انهيار اقتصادها أو قتل سياحتها أو خرابها بالكلية.
تقول الأسطورة إن ما يبدأ بــ (مفيش، معنديش، مش قادر أديك)، لابد وأن تكون نهايته (نجوع؟ مناكلش؟ إيه المشكلة ؟!).

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك