في الوقت الذي يبدأ فيه تشكل الذات الفردية من خلال الأسئلة والمناطق الغامضة في مرحلة الطفولة، تواجه هذه الذات الصدمات والتناقضات التي تحملها التفسيرات المجتمعية للعالم.. يأتي “الشباب” حينها ليحمل في داخله ميلا إلى تبجيل التفسيرات الميتافيزيقية لأنها تكشف له معان للأشياء التي كان يجدها منفرة أو مثيرة للازدراء.
تقدم الميتافيزيقيا العالم كلغز كبير يستحيل إدراك أبعاده، بالتالي فإذا كان لدى “الشباب” ميل لتحقير الذات أو دودة الإحساس بعدم الرضا، تخفف التفسيرات الميتافيزيقية من هذه الآلام، وترفع من منسوب الإيمان بلغز العالم الكبير، وتعمق من الاعتقاد في بؤسه العميق.. حينها يكتمل “الشباب” بجناحين يجمعان بين الإحساس بعدم المسئولية، ورؤية أهمية الأشياء في الوقت ذاته.
في ميدان تحرير آخر ما قبل 25 يناير، كانت الزاوية التي تضم محل “كنتاكي” – ممول الثورة طبقاً لبروبجندا إعلام النظام – مركزاً لمقدمي خدمة دقيقة المحمول 75 قرش. دائماً هناك من ينتظرون، وهناك من يتصلون بمن ينتظرونهم، في الوقت ذاته قاعدة للخرتجية ولبائعي الخدمات المتنوعة، ولصائدي العابرين، والتسالي.
أحد الوجوه الشهيرة – وقتها- سيحمل اسم “أجمل خول في وسط البلد”، وبعدها بسنوات سيحمل على الفيسبوك لقب “أحمد أنجل”.
كنت هاوياً للمراقبة ومضيعاً للوقت في تلك الزاوية، وبطبيعة الحال فقد أصبح وجه أجمل خول في وسط البلد مألوفاً لي في حضوره، كوجوه الواقفين بجوار المحمول ولافتة “الدقيقة 75 قرش”.. كان يطلب مني أحياناً إشعال سيجارته، وأحياناً كنت أستعير منه “كبريت”، ثم صرنا نعزم على بعض بالسجائر، ثم عرفني أنه يعمل في محطة مترو السادات حارساً للتماثيل الأثرية، ويصعد من آن لآخر ليشرب القهوة أو يمارس حياته الطبيعية أو المثلية.
للأجيال التي لم تشهد هذا الأمر، ففي زمن بعيد كان هناك محطة مترو أسفل ميدان التحرير وتحمل اسم الرئيس محمد أنور السادات، الذي استشهد برصاص إرهابيين عسكريين في عرض عسكري بمناسبة 6 أكتوبر.. كانت محطة أساسية يمكنك التبديل فيها بين خطوط القطارات المختلفة، بممرات وساحات متشابكة على أكثر من مستوى.. تمتلئ باللوحات والتماثيل الفنية والأثرية المحفوظة داخل صناديق زجاجية، وبينما نسير في أحد ممراتها، توقف “الجميل” أمام باب أصفر مطلي بلون شبيه بلون الحائط.. فتح الباب، ليكشف ممراً ضيقاً تنيره مصابيح صفراء متباعدة.. مشينا في الممر، وهو يخبرني بقصة التمثال الذي خرج من المخازن لوضعه في المحطة، لكن رئيس المحطة اعترض على وجود التمثال، ولأن إعادته للمخازن تتطلب دورات بيروقراطية معقدة، فقد اقترح الاحتفاظ به هنا.. قال إنه يعتقد أن للتمثال تأثيرا قويا ومركزيا، ومن المهم أن يتوسط المدينة في هذا الموقع الجغرافي، وبسبب كونه خول وجميل، فلديه القدرة على الإحساس بهذه الطاقة الروحية، حيث إن لديه اتصالا طبيعيا مع الأشياء، كما أنه يأكل الطعام الصحي فقط.
كان التمثال في غرفة صغيرة، بدا واضحاً أنها استخدمت كمخزن وغرفة تبديل ملابس وراحة للعمال أثناء عمليات الحفر وإنشاء وتأسيس المحطة في سالف الزمان، حينما كان مبارك ودولته يصنعون أمجادهم ومشاريعهم القومية بالاحتفال بتحديث شبكات المجاري والصرف الصحي، أو مبارك وهو يقف في كابينة قيادة المترو، ويستمتع بضغط أزرار الانطلاق والإيقاف، وفي إطار هذه الاحتفالات كان يتم شحن كل الرموز الوطنية والهوياتية، لتحميس الروح الوطنية لدى الجماهير، وتعزيز الانتماء الوطني من خلال جعل مفهوم حب الوطن مرتبط بالتصفيق الحاد مع كل إنجاز.
بارتفاع متر – تقريباً- كان التمثال في الغرفة للإله “من” بقضيب ذكري منتصب، وذراع مقطوع، وأمامه مكتب حديدي قديم بوحدة أدراج ثلاثية.. بدا الخول الجميل فخوراً بالمكتب، وقال إنه سيطلعنى على سر.
تتشكل صفات الرجولة في هذه المدينة من مجموعة من صفات مستحبة وصفات أخرى منبوذة، وهى منبوذة لا لشيء – أحياناً- إلا كونها مستحبة كصفات أنثوية.. الحياء مثلاً. أخرج مربعات خشبية، نُقش عليها رسم غير واضح، قدرت أنه معنى “الحياء”.. أخذ يرص المربعات في صفين.. صف لصفات الرجولة: الغضب.. العبوس.. الوفاء للصداقة الرجولية.. الفجاجة.. الغرور.. الاستعراض والتباهي، وأخرى للمنبوذ من الرجولة ليشكل النسوية: الضعف.. التواضع والمياصة.
بعضها بدا لي يحمل قدرا من المبالغة، مثلما كان كل شيء مبالغاً في هذه الحكاية.. مبالغاً في ذكورته المدعاة، وفي تقسيمته “الجندرية” للأخلاق والأفكار التي تحدد هوية النوع وتقع سقفاً منخفضاً فوق طاقة الفرد.. هذا السقف الذي تحمله أعمدة من الأكاذيب المتناقضة يتداعي تحت ضغط المتغيرات الاجتماعية ووسائل التواصل والإعلام، الذي يغرق المجتمع بصور متعددة من الحقائق عن هويته وذاته، بينما مؤسسات شاخت كالدولة والأزهر وغيرها من مؤسسات ضبط حركة المجتمع، تدافع عن بقائها من خلال قمع رغبات الأفراد.