استيقظت في الثانية صباحا على صوت الرعد وأضواء البرق اللامعة تؤرق سماء الليل، تقلبت في سريري يمنى ويسرى، حاولت النوم مجددا ولم أفلح، تحسست مفتاح الضوء في غرفتي ببطء، زافرة: “ما هي شكلها مفيهاش نوم الليلة دي”، أعددت كوبا من الشاي، وجلست على مقربة من شباك غرفتي المُطل على البحر لأتابع شكل الموج وهو يصول ويجول كـ “دون كيشوت”، وفجأة وسط صرير الأبواب وصوت ارتطام النوافذ والرعد المُخيف، انقطعت الكهرباء!
تحسست طريقي ببطء لأبحث عن هاتفي المحمول لأجده على شفا أن “يفصل شحن”، ولأجد أن شبكة الهاتف المحمول معدومة، أهرع للتليفون الأرضي لأكتشف أنه لا يوجد به حرارة أيضا، أجلس وحدي في البيت المُظلم داعية الله أن تمر هذه الليلة على خير، وسط تتابُع الأفكار السوداء والسيناريوهات المُوحشة على عقلي البائس، في انتظار أن يظهر لي شبح لقاتل عاش قديما في منزلي المتواضع.
هذه ليست فقرة من سيناريو لفيلم رعب، وليست مشهدا من فيلم “برانورمال آكتيفتي”، لقد حدث هذا معي بالأمس فعلا، لم يزرني النوم بالطبع وسط هذا الكم الرهيب من الأدرنالين، حتى رأيت خيوط الشمس تتسلل من النافذة، سجدت شكرا لله وكادت دموع الفرحة تُغرق وجنتي.
قررت ألا أدع مثل هذه الحادثة “البسيطة” تؤثر في، فلدي اليوم امتحان في المركز الثقافي الفرنسي بالنبي دانيال وعلي أن استذكر جيدا، مضى اليوم بشكل شبه طبيعى، حتى حان موعد خروجي.
بمجرد أن خطوت بقدمي خارج حدود البيت، وأنا لازلت على الرصيف، ابتل حذائي وبنطالي، استجمعت شجاعتي ونزلت من عليه، لأشعر بقشعريرة وبرودة شديدة، حيث وصلت المياه إلى قبل ركبتي بقليل.
كان الناس يهرعون في كل مكان، فوضى عارمة وأصوات تصيح، أناس يحاولون إخراج المياه من مداخل منازلهم وحوانيتهم، وآخرون يحاولون انقاذ سياراتهم المُصطفة على جانبي الشارع، لكن أكثرهم قوة وبسالة بالنسبة لي، كان هؤلاء الذين يحاولون خفض منسوب المياة عن مستوي سطح “بوكس” الكهرباء الذي يحتوي على كل الأسلاك الكهربية الخاصة بشارعنا، مع صراخ هستيري من أحدهم “هانموت منفجرين يا لييييييي”.
كلما حاولت أن أسير تخبطت أكثر في المياه القذرة، وبالرغم من كل هذا إلا أنني ظللت مُحتفظة بروحي المعنوية العالية، فأنا أرى هذا المشهد كل شتاء، هذا ليس بجديد على الإسكندرية، لكن التحدي الحقيقي كان ينتظرني على أول الشارع، حيث وجدت بضعة قوالب طوب مُتراصة على شكل عمودي، أو أفقي، لكنها مُتباعدة بعض الشئ، فقررت أن اختبر مهاراتي في الوثب الطويل، ويا ليتني ما فعلت، فلقد أخطأت تقدير المسافة بين قالب وآخر، مما أحدث “طرطشة” مياه كثيرة، وابتلال جزء معين من بنطالي لا يصح أن أذكره هنا.
بعد هذه التجربة المُنعشة التي لن أنساها أبداً، وصلت إلى الشارع الرئيسي على البحر، وركبت “مشروع” إلى محطة الرمل.
لا احتاج إلى أن أحدثكم عن مدى سعادتي الغامرة بارتفاع منسوب المياه على الكورنيش، فكلما تقدمنا شعرت أننا نسير داخل البحر وليس بجانبه، فقد كان مشهدا أشبه بمشهد أحمد حلمي في فيلم “بلبل حيران”، وهو يقطع صالة منزله الغارقة في المياة بـ “شلتة” بلاستيكية مُستخدما إياها كمركب صغير، أما عن ميعاد وصولي فقد وصلت مُتأخرة بالطبع، فالمشوار الذي لا يستغرق مني سوى 40 دقيقة وربما أقل، استغرق مني ساعتين كاملتين، كانتا كافيتين لأتأمل وأبحث عن حكمة الكون المفقودة في ألا تُصلح إدارات محافظتي الحبيبة بنيتها التحتية وتتركنا نعوم حرفيا في الخراء كل عام، فبالرغم من تعاقب الإدارات وتغييرها الدائم لم تتطرق إحداها لهذا الموضوع قط، ولا واحدة منها!
أنا أذكر جيدا أنني اعيش هذه المأساة كل عام، منذ أن كنت طفلة وأدرس الدراسات الاجتماعية بالمدرسة، واتعلم معنى كلمة محافظة ومحافظ، فالمشكلة قديمة جداً، لكنها تزداد مع مرور السنين في التفاقُم، ولا أحد يفعل شيئاً، بالرغم من الاستغاثات التي يبعثها المواطنون لعربات الصرف الصحي التي لا تأتي أبداً، وبالرغم من الصور التي تنتشر علي مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تُوضح مدى عمق الكارثة وآثارها.. لا أحد يفعل شيئاً، لقد تعدى الموضوع كونه بكرة من المياة تُعطل المرور بضع ساعات، فلقد قرأت خبرا يتحدث عن وفاة خمسة مواطنين جراء سقوط سلك الترام في مياه الأمطار المُتراكمة التي تُغرق الشوارع، هل هذا خبر طبيعي يُطالع إنسانة طبيعية تحيا في دولة طبيعية؟ بالطبع لا!
أنا اعلم جيدا أن إدارة محافظتي ومحافظها مشغولون بمشاريع أهم وأكثر جدية، مشاريع من التي تعود على الدولة بأكملها بفائدة عظيمة وتحمي لها أمنها الوطني، مثل الترام الجديد الذي يُنشأه المسيري بجانب مسجد القائد إبراهيم، يكفي أن تمر من هناك لتشعر بالسعادة الغامرة تراقص قلبك الحزين وتُنسيك أن مياه الأمطار تقطع عنك كل الخدمات من كهرباء وصرف وشبكات تليفون محمول وأرضي وإنترنت ومواصلات، تساقط حفنة من مياه الأمطار يوقف سير محافظة بأكملها ويعيدنا بالزمن إلى العصر الحجرى، بل ويمكن حتى أن يقتلك، في دولة نسبة مياه الأمطار فيها ضئيلة ولا تتماثل بأي شكل مع دول أخرى تُمطر فيها السماء صيفا وشتاءً! ماذا سنفعل لو واجهنا إعصارا مثل الذي كان يهدد المكسيك منذ بضعة أيام؟! نحن هنا يا سادة نعيش وفق مبدأ “بالبركة”، ولولا ستر الله علينا لكنا قد واجهنا مصير أطلاطنس الضائعة.
لكن الحق ليس على مُحافظنا طبعا، نحن من نستحق أن نُلام كمواطنين! ماذا سيفعل لنا المُحافظ؟ يقطع لنا نفسه إرباً؟! هو ليس بسوبر مان، يكفي عليه أن يُجدد الحديقة الصغيرة البائسة المُحيطة بمسجد سيدي بشر على البحر، أو يرمم الجدارية التي تسبق شارع المُشير بسيدي جابر، أو أن ينشئ تراما جديدا بالقائد إبراهيم، هذه هي المشاريع وإلا فلا!
أما الصرف والكهرباء وشبكات التليفون المحمول والأرضي، فمتابعتها وصيانتها من مياه الأمطار الشتوية، واجبنا نحن كمواطنين شرفاء أن نستعد دائما للشتاء.
لماذا لا تستعدوا للشتاء؟! زوروا أقاربكم وودعوهم كأنكم على سفر، لأنكم لن تروهم من شهر أكتوبر وحتى نهاية يناير، حيث تكثر النوات وتمتلأ شوارعنا بالأمطار، تدربوا على رياضات الجيت سكي والوثب الطويل للذهاب للعمل صباحا، أو اعتبروا أنفسكم تعيشون في فينيسيا الشرق واستخدموا المراكب كوسيلة للمواصلات، وليندر أحدكم نفسه في كل شارع للحول دون وصول مياة الأمطار إلى بوكس الكهرباء، ليعتبر نفسه شهيدا للواجب والوطن، أما عن خدمات الإنترنت والتليفونات، فيمكننا أن نستغني عنها بالطبع، وأهو كله عشان مصر!